الحمد لله و الصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعـد :
القصة رواها الإمام أحمد في فضائل الصحابة ، وأبو يعلى في مسنده ، واللالكائي في كرامات الأولياء ، وابن عساكر في تاريخ دمشق ، وأطول سياق ، و أكمله لهذه القصة ، ما رواه ابن عساكر : "لما انصرف خالد بن الوليد بن اليمامة ، ضرب عسكره على الجرعة التي بين الحيرة والنهر ، وتحصن منه أهل الحيرة في القصر الأبيض ، وقصر ابن بقيلة فجعلوا يرمونه بالحجارة حتى نفذت ، ثم رموه بالخزف من آنيتهم ، فقال ضرار بن الأزور: ما لهم مكيدة أعظم مما ترى ، فبعث إليهم ، ابعثوا إلي رجلا من عقلائكم أسائله ، ويخبرني عنكم.
فبعثوا إليه عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيان بن بقيلة الغساني ، وهو يومئذ ابن خمسين وثلاثمائة سنة ، فأقبل يمشي إلى خالد ، فلما رآه ، قال : ما لهم أخزاهم الله بعثوا إلي رجلا لا يفقه ، فلما دنا من خالد ، قال : أنعم صباحا أيها الملك ، فقال خالد : قد أكرمنا الله بغير هذه التحية ، بالسلام.
ثم قال له خالد : من أين أقصى أثرك ،
قال : من ظهر أبي ،
قال : من أين خرجت .
قال : من بطن أمي
قال : على ما أنت
قال : على الأرض
قال : فيم أنت ويحك
قال : في ثيابي
قال : أتعقل
قال : نعم ، وأقيد
قال : ابن كم أنت
قال : ابن رجل واحد
قال خالد : ما رأيت كاليوم قط أسائله عن شيء ، وينحو في غيره
قال : ما أجيبك إلاّ عن ما سألت عنه ، فاسأل عمّا بدالك
قال : كم أتى لك
قال : خمسون وثلاثمائة
قال : أخبرني ما أنتم
قال : عرب استنطبنا ونبط استعربنا
قال : فحرب أنتم أم سلم
قال : بل سلم
قال : فما بال هذه الحصون
قال : بنيناها لنحبس السفيه ، حتى ينهاه الحليم
قال ، ومعه سم ساعة ، يقلبه في يده
فقال له خالد : ما هذا معك
قال : هذا السم
قال : وما تصنع به
قال : أتيتك فإن رأيت عندك ما يسرني وأهل بلدي حمدت الله،وإن كانت الأخرى، لم أكن أول من ساق إليهم ضيما ، وبلاء ، فآكله وأستريح ، وإنما بقي من عمري يسير.
فقال : هاته .
فوضعه في يد خالد
فقال خالد : بسم الله ، وبالله رب الأرض ، ورب السماء ، الذي لا يضر مع اسمه داء ، ثم أكله ، فتجللته غشية ، فضرب بذقنه على صدره ، ثم عرق ، وأفاق ، فرجع ابن بقيلة إلى قومه ، فقال جئت من عند شيطان ، أكل سم ساعة فلم يضره ، أخرجوهم عنكم ، فصالحوهم على مائة ألف"ا.هـ
وقد جاءت من عدة طرق ، دلّ مجموعها على ثبوت القصـة ، ولهذا تناقلها عدد من الأئمة بالإقرار فلم ينكروهـا، كالإمام الذهبي الذي قال في سير أعلام النبلاء : هذه والله الكرامة ، ، وهذه الشجاعة .
كما احتج بها في بـاب إيمان أهل السنة بالكرامات ، شيخ الإسلام ابن تيمية ، في كتابه الفرقان ، وفي منهاج السنة ، وفي النبوات أيضا.
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح ، في شرح باب شرب الســم ، والدواء به ، وما يخاف منه : " وأما مجرد شرب السم ، فليس بحرام على الإطلاق ، لأنه يجوز استعمال اليسير منه ، إذا ركب معه ما يدفع ضرره ، إذا كان فيه نفع ، أشار إلى ذلك بن بطال ، وقد أخرج بن أبي شيبة وغيره، أنّ خالد بن الوليد لما نزل الحيرة ، قيل له : احذر السم ، لا تسقيكه الأعاجم ، فقال : ائتوني به ، فأتوه به ، فأخذه بيده ، ثم قال: بسم الله ، واقتحمه ، فلم يضره ، فكأنَّ المصنف ، رمز إلى أن السلامة من ذلك ، وقعت كرامة لخالد بن الوليد ، فلا يتأسى به في ذلك ، لئلا يفضي إلى قتلالمرء نفسه ، ويؤيد ذلك حديث أبي هريرة في الباب ، ولعله كان عند خالد في ذلك عهد عمل به " ا.هــ كلامه
وفي القصة دلالة على جواز ركوب الخطـر الذي يُخشى معه تلف النفس ، إذا رجا الفاعـل السلامة في العاقبـة ، و كان فيه مصلحة راجحـة ، والمصلحة الراجحـة هنا فـي هذه القصة : النصـر في التحدّى على صحة الإسلام .
غير أنـّه هنـا داخل في حيّز الكرامـات ، وهـي موقوفة على ما في قلب من تقع له الكرامة من اليقين ، فقوّة توكله ، رجحت عنده إبطال الله تعالى العادة ، على جريانها بإقتضاء الأسباب لمسبباتها في هذه الحال ، ولهذا لايصح أن يُسـتدل بها على سبيـل العموم.
قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله في كتابه النبــوّات : " ومنه ، أي منالكرامات ، ما يتحدى بها صاحبها أن دين الإسلام حق ، كما فعل خالد بن الوليد لمـا شرب السم "
ولا يخفى أنّ قوة رجاء السلامة في العاقبة ، شرط تحقق المصلحة هنـا ، ولهذا لايصح الإستدلال بها على العمليات الاستشهادية ، فإنها بقصـد الموت في سبيل الله، لا السـلامة من الموت.
فضلا عن الإنتحار الذي هو من المحرمات القطعية.
غير أنّ الفرق الذي جعل العمليات الإستشهادية مشروعة ، و الإنتحار محـرّم ، أن الأولى مبنيّة على الإشتياق لكرامات الشهادة ، بجعل النفس وسيلة للنكاية في العدو ، ونصر الإسلام ،
أو فداء المسلمين بنفسه ، كمـن يلقي بنفسه في البحر لإنقاذ من في السفينة ، كما فعل يونس عليه السلام .
وأما الإنتحار فهو مبني على اليأس الدافع لقتل النفس قتلا محضا لافائدة فيـه ، وشتان بينهما.